فصل: ثم دخلت سنة خمـس وتسعيـن وستمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ أبي الفداء **


  ثم دخلت سنة ثلاث وتسعين وستمائة

ذكر مقتل السلطان الملك الأشرف وفي هذه السنة في أوائل المحرم قتل السلطان الملك الأشرف صلاح الدين خليل ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون وسبب ذلك‏:‏ أنه سار من قلعة الجبل إلى الصيد ووصل إلى تروجة ونصب الدهليز عليها وركب في نفر يسير من خواصه للصيـد فقصـده مماليك والده وهم‏:‏ بيدرا نائب السلطنة ولاجين الذي كان عزله السلطان عن نيابة السلطنة بدمشق واعتقله مرة بعد أخرى وقراسنقر الذي عزله عن نيابة السلطنة بحلب وانضم إليهم بهادر رأس النوبة وجماعة من الأمراء ولما قاربوا السلطـان أرسـل إليهـم أميـراً يقـال لـه كـرت أمير أخور ليكشف خبرهم فحال وصوله إليهم أمسكوه ولم يمكنوه من العود إلى السلطان وقاربوا السلطان وكان بينهم مخاضة فخاضوها ووصلوا إليه فأول من ضربه بالسيف بيدرا ثم لاجين حتى فارق وتركوه مرمياً على الأرض فحمله أيدمر الفخري والي تروجة إلى القاص فدفن في تربته رحمه الله تعالى ولا جرم إن اللـه تعالـى انتقـم مـن قاتليـه المذكوريـن معجـلاً ومؤجلاً على ما سنذكره‏.‏

ذكر مقتل بيدرا ولما قتل السلطان على ما ذكرناه اتفق الجماعة الذين قتلوه على سلطنة بيدرا وتلقب بالملك القاهر وسار نحو قلعة الجبل ليملكها واجتمعت مماليك السلطان الملك الأشرف وانضموا إلى زيـن الدين كتبغا المنصوري وساروا في إثر بيدرا ومن معه فلحقوهم على الطرانة في خامس عشر المحرم من هذه السنة واقتتلوا وانهزم بيدرا وأصحابه وتفرقوا في الأقطار وتبعوا بيدرا وقتلوه ورفعوا رأسه على رمح واستتر لاجين وقرا سنقر ولم يطلع لهما على خبر‏.‏

ذكر سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولما جرى ما جرى من قتل السلطان الملك الأشرف ثم قتل بيدرا ووصول زين الدين كتبغا والمماليك والسلطانية إلى قلعة الجبل وبها علم الدين سنجر الشجاعي نائباً اتفقوا على سلطنة مولانا السلطان الأعظم الملك الناصر ولد مولانا السلطان الملك المنصور فأجلسوه على سرير السلطنة في باقي العشر الأوسط من المحرم من هذه السنة وتقرر أن يكون الأمير زين الدين كتبغـا المنصـوري نائـب السلطنـة وعلـم الديـن سنجـر الشجاعـي وزيراً وركن الدين بيبرس البرجي الجاشنكير أستاذ الدار وتتبعوا الأمراء الذين اتفقوا مع بيدرا على ذلك فظفروا أولاً ببهادر رأس النوبة وأقوش الموصلـي الحاجـب فضربـت رقابهمـا وأحرقـت جثثهمـا ثـم ظفـروا بطرنطاي الساقي والناق ونغية وأروس السلحدارية ومحمـد خواجـا والطنبغـا الجمـدار وأقسنقر الحسامي فاعتقلوا بخزانة البنود أياماً ثم قطعت أيديهم وأرجلهم وصلبوا على الجمال وطيف بهم وأيديهم معلقة في أعناقهم جزاء بما كسبوا ثم وقع قجقار الساقي فشنق‏.‏

ذكر القبض على الوزير ابن السلعوس وقتله وفي هذه السنة اتفق زين الدين كتبغا والشجاعي على القبض على شمس الدين محمد بن السلعوس وزير السلطان الملك الأشرف فقبضا عليه وتولاه الشجاعي فعاقبه واستصفى ماله وقتله وكان ابن السلعوس المذكـور قـد بلـغ عنـد السلطـان منزلـة عظيمـة وتمكـن فـي الدولـة وصارت الأمور كلها معذوقة به وكان لابن السلعوس المذكور أقارب وأهل بدمشق فلما صار في هذه المنزلـة أرسـل وأحضـر أقاربـه مـن دمشـق إلـى عنـده بالديـار المصريـة فحضـروا إلا شخصاً منهم فإنه استمر مقيماً بدمشق وكتب إلى ابن السلعوس‏:‏ تنبـه يـا وزير الأرض واعلم بأنك قد وطئت على الأفاعي وكن باللـه معتصمـاً فإنـي أخاف عليك من نهش الشجاعي ذكر قتل الشجاعي وفـي صفـر مـن هـذه السنة حصلت الوحشة بين الأمير زين الدين كتبغا نائب السلطنة وبين علم الدين سنجر الشجاعي الوزير وصار مع كل منهما جماعة من الأمراء ولمـا جـرى ذلـك نـزل كتبغا ومن معه من القلعة واستمر الشجاعي وأصحابه بها وحصره كتبغا وغلب عليه وقتل الشجاعي المذكور وقطع رأسه وطيف به في البلد‏.‏

وفيها ظهر حسام الدين لاجين وشمس الدين قراسنقر من الاستتار وأخذ لهما خوشداشهما الأمير زين الدين كتبغا الأمان من السلطان وقرر لهما الإقطاعات الجليلة وأعز جانبهما‏.‏

  ثم دخلت سنة أربع وتسعين وستمائة

ذكر استيلاء زين الدين كتبغا على المملكة فـي هـذه السنـة فـي يـوم الأربعـاء تاسع المحرم جلس الأمير زين الدين كتبغا المنصوري على سرير المملكة ولقب نفسه الملك العادل زين الدين كتبغا واستحلف النـاس علـى ذلـك وخطـب لـه بمصر والشام ونقشت السكة باسمه وجعل مولانا السلطان الملك الناصر في قاعة بقلعة الجبل وحجب عنه الناس ولما تملك زين الدين كتبغا المذكور جعل نائبه في السلطنة حسام الدين لاجيـن الذي كان مستتراً بسبب قتل السلطان الملك الأشرف على ما تقدم ذكره واستقر الحال على ذلك‏.‏

ذكر قتل كيختو ملك التتر وملك بيدو فـي هـذه السنـة فـي ربيـع الآخر قتل كيختو بن أبغا بن هولاكو بن طلو بن جنكزخان‏.‏

وسبب ذلـك‏:‏ أنـه لمـا أفحـش كيختو المذكور بالفسق في أبناء المغل وشكوا ذلك إلى ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو فاتفق معهم على قتل كيختو المذكور وقصدوا كبسه وقتله فعلم كيختو وهرب فتبعوه ولحقوه بسلاسلار من أعمال موغان وقتلـوه بهـا فـي الشهـر المذكـور ولمـا قتـل كيختو ملك بعده ابن عمه بيدو بن طرغية بن هولاكو المذكور وجلس على سرير الملك في جمادى الأولى من هذه السنة‏.‏

وكان قازان بخراسان فلما بلغه ملك بيدو جمع من أطاعه من المغل وأهل تلك البلاد وسار إلى قتال بيدو ولما بلغ بيدو مسير قازان إليه جمع وسار إلى جهـة قازان وكان مع قازان أتابكه نيروز وهو الذي جمع الناس على طاعة قازان فلما تقارب الجمعان علم قازان أنه لا طاقة له ببيدو فراسله واصطلحا وعاد قازان إلى خراسان وأمر بيدو أن يقيم نيروز عنده خوفاً من أن يجمع العسكر على قازان مره ثانية فرجع قازان إلى خراسان وأقام نيروز عند بيدو وأخذ نيروز في استمالة المغل إلى قازان وإفسادهم على بيدو في الباطن‏.‏

ذكر مقتل بيدو وتملك قازان ولما استوثق نيروز من المغل في الباطن كتب إلى قازان بخراسان وأمره بالحركة فتحرك قازان وبلـغ بيـدو ذلـك فتحـدث مـع نيـروز في ذلك فقال نيروز لبيدو‏:‏ أرسلني إلى قازان لأفرق جمعه وأرسلـه إليـك مربوطـاً فاستحلـف بيـدو نيـروز على ذلك وأرسله فسار نيروز إلى قازان وأعلمه بمن معه من المغل وعمد نيروز إلى قدر فوضعها في جولق وربطه وأرسل بذلك إلى بيدو وقال‏:‏ وفيت بيميني حيث ربطت قازان وبعثته إليك وقازان اسم القدر بالتتري فلما بلغ بيـدو دلـك جمـع عساكـره وسـار إلـى جهـة قـازان والتقـى الجمعـان بنواحـي همـذان فخامر أصحاب بيدو عليه وصاروا مع قازان فولى بيدو هارباً وتبعه عسكر قازان فأدركوه عن قريب بنواحي همذان وقتلوه في ذي الحجة من هذه السنة فكانت مدة مملكة بيدو نحو ثمانية أشهـر ولمـا قتـل استقـر قـازان بـن أرغـون بـن أبغـا بـن هولاكـو بـن طلو بن جنكزخان في المملكة في ذي الحجـة مـن هذه السنة أعني سنة أربع وتسعين وستمائة بعد مقتل بيدو ولما استقر قازان في المملكة جعل نيروز نائب مملكته ورتب أخاه خربندا بن أرغون بخراسان‏.‏

  ذكر أخبار ملوك اليمن ووفاة صاحبها

وفـي هذه السنة توفي صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن الملك المنصور عمر بن علي بن رسول بقلعة تعز وقد تقدم ذكر ملكه اليمن بعد قتل أبيه في سنة ثمان وأربعين وستمائة فكانت مدة ملكه نحو سبع وأربعين سنة وخلف عدة من الأولاد الذكور فملك بعده ولـده الأكبـر الملـك الأشرف عمر بن يرسف وكان أخو عمر المذكور الملك المؤيد داود بالشحر عند موت والده لأن أباه كان قد أعطى داود المذكور الشحر وأبعده إليها فلما مات والده وملك آخره الملك الأشرف تحرك الملك المؤيد داود المذكور وسار إلى عدن واستولـى عليها فأرسل أخوه الملك الأشرف عسكراً واقتتلـوا مـع الملـك المؤيـد داود المذكـور فانتصـروا عليه وأخذوه أسيراً وأحضروه إلى الملك الأشرف فقيده واعتقله وكان عمر الملك الأشرف لما تملـك نحـو سبعيـن سنـة وأقـام فـي الملـك عشريـن شهـراً وتوفـي والملـك المؤيد داود في الاعتقال مقيداً فاتفق كبراء الدولة في ذلك الوقت وأخرجوه من الحبس وملكوا الملك المؤيد داود بن يوسف المذكور واستمر مالكاً لليمن إلى يومنا هذا وهو سنة ثمان عشرة وسبعمائة‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث‏:‏ في هذه السنة أرسل الملك العادل زين الدين كتبغا وقبض على خشداشه عز الدين أيبك الخزندار وعزله عن الحصون والسواحل بالشام ثم أفرج عنه واستناب موضعه عز الدين أيبك الموصلي‏.‏

وفيها قصر النيل تقصيراً عظيماً وتبعه غلاء وأعقبه وباء وفناء عظيم‏.‏

وفيها في أوائل هذه السنة لما جلس في السلطنة زين الدين كتبغا أفرج عن مهنا بن عيسى وإخوته وأعادهم إلى منزلتهم‏.‏

  ثم دخلت سنة خمـس وتسعيـن وستمائة

في هذه السنة قدم من التتر نحو عشرة آلاف إنسان وافد ين إلى الإسلام خوفاً من قازان وكان مقدمهم يقال له طرغيه من أكبر أمراء المغل كان مزوجاً ببنت منكوتمر بن هولاكو الذي انكسر جيشه على حمص ويقال لهذه الطائفة الوافدين العويراتية وكان سبب قدومهم أن مقدمهم طرغية هو الذي اتفق مع بيدو على قتل كيختو بن أبغا فلما ملك قازان قصد الإمساك على طرغيه وقتله أخذا بثأر عمه كيختو فهرب طرغيه وجماعتـه المذكـورون بسبـب ذلـك ولمـا قدمـوا إلـى الإسلـام أرسـل الملـك العـادل كتبغـا أميـراً لمقالهم وأكرمهم وأنزلهـم بالساحـل قريـب قاقـون وأدر عليهـم الـأرزاق وأحضـر كبراءهـم عنـده إلى الديار المصرية وأعطاهم الإقطاعات الجليلة وواصلهم بالخلع وقدمهم على غيرهم‏.‏

وفيها في شوال خرج الملك العادل كتبغا من الديار المصرية وسـار إلـى الشـام ووصـل إلـى دمشق وحضر إليه بدمشق الملك المظفر محمود صاحب حماة حماة ثم سار الملك العادل من دمشق إلى جهة حمص وسار على البرية متصيداً ووصل إلى حمص وقدم إلى جوسية وهي قرية على درب بعلبك من حمص وكانـت خرابـاً فاشتراهـا وعمرهـا فوصـل إليهـا ورآهـا ثـم عاد إلى دمشق وأعطى صاحب حماة الدستور فعاد إلى بلده ولما استقر العـادل بدمشـق عزل عز الدين أيبك الحموي عن نيابة السلطنة بالشام وولى موضعه سيف الدين غرلو مملوك الملك العادل كتبغا المذكور وخرجت هذه السنة والملك العادل بدمشق‏.‏

  ثم دخلت سنة ست وتسعين وستمائة

وخلعه واستيلاء لاجين على السلطنة‏:‏ لما دخلت هذه السنة سار العادل كتبغا المنصور في أوائل المحرم من دمشق بالعساكر متوجهاً إلى مصر فلما وصل إلى نهر العوجا واستقر بدهليزه وتفرقت مماليكه وغيرهم إلى خيامهم ركب حسام الدين لاجين المنصوري نائب الملك العادل كتبغا المذكور بسنجق ونقاره وانضم إلى لاجين المذكور بدر الدين البيسري وقراسنقر المنصوري وسيف الدين قبجاق المنصوري والحاج بهادر الظاهري وغيرهم من الأمراء المتفقيـن مـع حسـام الديـن لاجيـن وقصـدوا الملـك العـادل وبغتـوه عند الظهر في دهليزه بالمنزلة المذكورة فلم يلحق أن يجمع أصحابه ركب في نفر قليـل فحمـل عليـه نائبـه لاجيـن المذكـور وقتـل بكتـوت الـأزرق وبتخاص وكانا أكبر مماليك العادل فولى العادل كتبغا المذكور هارباً راجعاً إلى دمشق لأنه فيها مملوكه غرلو ووصل إلى دمشق فركب مملوكه غرلو والتقاه دخل إلى قلعة دمشق واهتم في جمع العسكر والتأهب لقتال لاجين فلم يوافقه عسكر دمشق وأرسل إلى حسام الدين لاجين يطلب منه الأمان وموضعاً يأوي إليه فأعطاه صرخد فسار العادل كتبغا المذكور إليها واستقر فيها إلى أن كان منه ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما حسام الدين لاجين فإنه لما هـزم العـادل كتبغـا علـى مـا ذكرنـاه نـزل بدهليـزه علـى نهـر العوجا واجتمع معه الأمراء الذين وافقوه على ذلك وشرطوا عليه شروطاً فالتزمها منها‏:‏ أن لا ينفرد عنهم برأي ولا يسلط مماليكه عليهم كما فعل بهم كتبغا فأجابهم لاجين إلى ذلك وحلف لهم عليه فعند ذلك حلفوا له وبايعوه بالسلطنة ولقـب بالملـك المنصـور حسـام الديـن لاجيـن المنصوري وذلك في شهر المحرم من هذه السنة أعني سنة ست وتسعين وستمائة ثم رحل بالعساكر إلى الديار المصرية ووصل إليها واستقر بقلعة الجبل‏.‏

ولما استقر بمصر أعطى للعادل كتبغـا صرخـد وأرسـل إلـى دمشـق سيـف الديـن قبجق المنصوري وجعله نائب السلطنة بالشام‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث وفـي هـذه السنـة أرسـل حسـام الديـن لاجيـن الملقـب بالملـك المنصـور مولانـا السلطـان الملـك الناصر من القاعة التي كان فيها بقلعة الجبل إلى الكرك وسار معه سلار فأوصله إليها ثم عاد سلار إلى حسام الدين لاجين‏.‏

وفيها أفرج الملك المنصور لاجين عن بيبرس الجاشنكير وعن عدة أمراء كان العادل كتبغا قد قبـض عليهـم وسجنهـم فـي أيـام سلطنتـه‏.‏

وفيهـا أعطـى المنصور لاجين المذكور جماعة من مماليكه إمرة طبلخاناه مثل منكوتمر وأيد غدي شقير وبهادر المعزي وغيرهم‏.‏

  ثم دخلت سنة سبع وتسعين وستمائة

ذكر تجريد العساكر إلى حلب ودخولهم إلى بلاد سيس وعودهم إلى حلب ثم دخلولهم ثانياً وما فتحوه‏:‏ في هذه السنة جرد حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور جيشاً كثيفاً من الديار المصرية مع بدر الدين بكناش الفخري المعروف بأمير سلاح ومع علم الدين سنجر الـدواداري ومـع شمس الدين كريته ومع حسام الدين لاجين الرومي المعروف بالحسام أستاذ دار‏.‏

فساروا إلى الشام ورسم لاجين المذكور بمسير عساكر الشام فسار البكي الظاهري نائب السلطنة بصفد ثـم بعـد مـدة سار سيف الدين قبجق نائب للسلطنة بالشام وأقام قبجق ببعض العسكر بحمص وسـارت العساكـر إلى حلب وسار الملك المظفر محمود صاحب حماة بعسكره ووصل المذكورون إلى حلب يوم الاثنين الثالث والعشرين من جمادى الآخرة وسابع نيسان ثم ساروا إلـى بلـاد سيـس فعبـر صاحـب حمـاة والـدواداري ومـن معهمـا مـن العساكر من دربندمري وعبر باقي العساكر من جهة بغراس من باب إسكندرونة واجتمعوا على نهر جيحان وشنوا الغارات على بلاد سيس في العشر الأوسط من رجب وكسبوا وغنموا وعادوا فخرجوا من دربند بغراس إلى مرج أنطاكية في الحادي والعشرين من رجب من هذه السنة الموافق لرابع أيار‏.‏

وسار صاحب حماة الملك المظفر إلى جهة حماة حتى وصل إلى قصطون فورد مرسوم لاجين بعود العساكر واجتماعهم بحلب ودخلوهم إلى بلاد سيس ثانياً‏.‏

وهذه الغزوة من الغزوات التي حضرتها وشاهدتهـا مـن أولهـا إلـى آخرهـا فعدنـا إلـى حلـب ووصلنا إليها في يوم الأحد الثامن والعشرين من رجب وأقمنا ثـم رحلنـا مـن حلـب ثالـث رمضان إلى بلاد سيس ودخلنا من باب إسكندرونة نزلنا علـى حمـوص يـوم الجمعـة تاسـع رمضان من هذه السنة الموافق للعشرين مـن حزيـران وأقـام حمـوص بـدر الديـن بكنـاش أميـر سلـاح والملـك المظفـر صاحـب حمـاة ومـن انضـم إليهمـا مـن عسكـر دمشـق مثـل ركن الدين بيبرس العجمي المعروف بالجالق ومضافيـه مـن عسكـر دمشـق وحاصرنـا حمـوص وضايقناهـا وأما باقي العسكر فإنهم نزلوا أسفل من حموص في الوطاة واستمر الحال على ذلك وقل الماء في حموص واشتد بهم العطش وكان قد اجتمع فيها من الأرمن عالم عظيم ليعتصموا بها وكذلك اجتمع فيهـا مـن الـدواب شـيء كثيـر فهلـك غالبهـم بالعطـش ولمـا اشتـد بهـم الحـال وهلكت النساء والأطفال أخرج أهل حموص في الخامس والعشرين من رمضان وهـو سابـع عشر يوماً من نزولنا عليها من نسائهم نحو ألف ومائتين من النساء والصبيان فتقاسمهم العسكر وغنموهم فكان قسمي جاريتين ومملوكاً وأصابنا ونحن نازلون على حموص في العشر الأوسط من شهر تموز ضباب قوي ومطر وحصل للملك المظفر وهو نازل على حموص قليل مرض ولم يكن صحبته طبيبه فاقتصر على ما كنت أصفه له وأعالجه به فشفاه الله تعالى وعاد إلى العافية وأنعم علي وأحسن إلي على جاري عادته وكانت خيمته المنصوبة على حموص خيمة ظاهرها أحمـر قـد عملهـا مـن أكسيـة مغربيـة وداخلهمـا منقـوش بالخـام الرفيـع المصبـغ وكانـت الأمراء الذين لم ينازلوا حموص وهم مقيمون في الوطاة إذا عرض لهم مـا يقتضـى المشـاورة يطلعـون إلى الجبل ويجتمعون في خيمة الملك المظفر وبين يديه يتشاورون على ما فيه المصلحة واستمر الحال على ذلك إلى أن فتح حموص وغيرها على ما سنذكره‏.‏

ذكر فتح حموص وغيرها من قلاع بلاد الأرمن ولما كان فتوح ذلك متوقفاً على ملك دندين بن ليفون احتجنا نذكر كيفية ملكه بلاد الأرمن وتسليمـه البلـاد إلـى المسلميـن فنقـول‏:‏ إنـه تقـدم فـي سنـة أربـع وستيـن وستمائـة أسر ليفون بن هيتوم لمـا دخلـت العسكـر صحبـة الملـك المنصور صاحب حماة في أيام الملك الظاهر بيبرس البندقداري الصالحي وتقدم كيفية خلاص ليفون وما افتداه أبوه هيتوم به حتى عاد إلى أبيه صاحب سيس ثم إن ليفون المذكور ملك بعد موت أبيه هيتوم وبقي في الملك مدة ثم مات ليفون المذكور وخلف عدة من الأولاد الذكور أكبرهم هيتوم ثم تروس ثم سنباط ثم دندين ثم أوشين‏.‏

فلما مات ليفون ملك بعده ابنه الأكبر هيتوم بن ليفون بن هيتوم وبقي في الملك مدة فجمع أخوه سنباط جماعة ووثب على أخيه هيتوم المذكور وقبض عليه وسمله فعميت عين هيتوم الواحدة وسلمت له الأخرى واستمر في الحبس‏.‏

وكذلك قبض سنباط المذكور على أخيه تروس ثم قتله وخلف تروس المذكور ولداً صغيراً واستقر سنباط المذكور في الملك واتفق دخول العساكر إلى بلاد سيس ومنازلة حموص في أيام مملكة سنباط فضاقت على الأرمن البلاد بما رحبت وهلكوا من كثرة ما قتل وغنم منهم المسلمون فنسبوا ذلك إلى سوء تدبير سنباط وعدم مصانعته للمسلمين فكرهوه واتفقوا على إقامة أخيه دندين بن ليفون في المملكة والقبض على سنباط واجتمع الأرمـن علـى دنديـن فأحـس سنبـاط بذلـك فهـرب إلـى جهـة قسطنطينية وتملك دندين ويقال له كسيندين أيضاً‏.‏

فلما تملك دندين المذكور أرسل إلى العساكر المقيمة في بلاد سيس على حموص وعلى غيرها وبذل لهم الطاعة والإجابة إلى ما يرسم به سلطان الإسلام وأنه نائب السلطان بهذه البلاد فطلـب منـه العسكـر أن يكـون نهـر جيحـان حـداً بيـن المسلميـن والأرمـن وأن تسلم كل ما هو جنوبي نهر جيحان من الحصـون والبلـاد فأجـاب دنديـن المذكـور إلـى ذلـك وسلـم جميـع البلـاد التـي جنوبي نهر جيحان المذكور إلى المسلمين فمنها‏:‏ حموص وتل حمدون وكويرا والنفير وحجـر شغلان وسرفندكار ومرعش وهذه جميعها حصون منيعة ما تـرام وكذلـك سلـم غيرهـا مـن البلـاد وكـان تسليـم حمـوص يـوم الجمعـة تاسـع عشـر شـوال من هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة ووافق ذلك ثامن شهر آب وسلمت تل حمدون بعدهـا ثـم سلمـت باقـي الحصـون والبلاد المذكورة‏.‏

وأمر حسام الدين لاجين الملقب بالملك المنصور باستمرار عمارة هذه البلـاد وكـان ذاك رأيـاً فاسداً على ما سيظهر من عود هذه البلاد إلى الأرمن عند دخول قازان البلاد ولما استقرت هذه البلاد للمسلمين جعل فيها حسام الدين لاجين بعض الأمراء نائباً ثم عزله وولى عليها سيف الدين أسندمر نائباً وجرد معه عسكراً وكان مقام أسندمر المذكور بتل حمدون وبعد تسليم تل حمدون رحل الملك المظفر محمود صاحب حماة عنها مستهل ذي القعدة من هذه السنة وسارت العساكر وخرجت من الدربند وسرنا جميعاً ودخلنا حلب يوم الإثنين تاسع ذي القعدة الموافق لعاشر آب عن هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة‏.‏

فلما أقمنا بحلب ورد مرسوم حسام الدين لاجيـن الملقـب بالملـك المنصـور إلـى سيـف الديـن بلبان الطباخي بالقبض على جماعة من الأمراء المجردين مع العسكر فعلموا بذلك وكان قبجق مقيماً بحمص مستشعراً خائفاً من لاجين المذكور فهرب من حلب فارس الدين البكي نائب السلطنة بصفد وكان من جملة العسكر المجردين على حلب‏.‏

وكذلك هرب بكتمر السلحدار وبورلار وعزاز ووصلوا إلى حمص واتفقوا مع سيف الدين قبجق على العصيان‏.‏

ذكر غير ذلك من الحوادث في أوائل هذه السنة قبل تجريد العساكر إلى سيس قبض حسام الدين لاجين على نائبه في السلطنة شمس الدين قراسنقر واعتقله وولى نيابة السلطنـة مملوكـه منكوتمـر الحسامـي فأظهـر منكوتمر المذكور من الحماقة والكبرياء ما غير به خواطر العسكر عليه وعلى أستاذه وكذلك قبـض لاجيـن المذكـور علـى بدر الدين البيسري وعلى عز الدين أيبك الحموي وعلى الحاج بهادر أمير حاجب وغيرهم من الأمراء‏.‏

وفيها أوقع قازان ملك التتر بأتابكه نيروز وقتله لأنه نسبه إلى مكاتبة المسلمين ورتب موضع وفيها وفد سلامش وهو مقدم ثمان من المغل وكـان ببلـاد الـروم وبلغـه أن قـازان يريـد قتلـه فهرب وقدم على الملك المنصور حسام الدين لاجين فأكرمه فطلب سلامش نجدة من الملك المنصـور لاجيـن ليعـود إلـى الـروم طمعاً في اجتماع أهل الروم عليه فجرد معه من حلب عسكراً مقدمهم سيف الدين بكتمر الجلمي وساروا مع سلامش حتى تجاوزوا بلد سيس فخرجت عليهم التتر واقتتلوا معهم فقتل الجلمي وجماعة من العسكر الإسلامي وهـرب الباقـون وأمـا سلامش فهرب إلى قلعة من بلاد الروم واعتصم بها ثم أرسل إليه قازان واستنزله وحصر سلامش وقتله شر قتله‏.‏

وفيها اجتمع رأي حسام الديـن لاجيـن ونائبـه منكوتمـر علـى روك الإقطاعـات بالديـار المصريـة فريكت جميع البلاد المصرية وكتب بما استقر عليه الحال مثالات وفرقت على أربابها فقبلوها طوعاً أو كرهاً‏.‏

وفيها توفي عز الدين أيبك الموصلي نائب الفتوحات وغيرها وولى موضعه سيف الدين كرد أمير أخور‏.‏

وفيها في أواخر ذي القعدة مـن هـذه السنـة هـرب قبجـق والبكـي وبكتمـر السلحـدار ومـن انضم إليهم من حمص وساق خلفهم أيدغدي شقير مملوك حسام الدين لاجين من حلب مع جماعة من العسكر المجردين ليقطعوا عليهم الطريق‏.‏

ففاتهم قبجـق ومـن معـه وعبـروا الفـرات واتصلوا بقازان ملك التتر فأحسن إليهم وأقاموا عنده حتى كان منهم ما سنذكره إن شاء الله تعالى‏.‏

وفيها في أواخر ذي القعدة وصل من حسام الدين لاجين دستوراً للملك المظفر صاحب حماة بالحضور من حلب إلى حماة فسار الملك المظفر ووصل إلى حماة واستمرت العساكر مقيمين بحلب إلى أن خرجت هذه السنة‏.‏

وفي الثامن والعشرين من شوال هذه السنة أعني سنة سبع وتسعين وستمائة توفي الشيخ العلامة جمال الدين محمد بن سالم بن واصل قاضي القضاة الشافعي بحماة المحروسـة وكـان مولـده فـي سنة أربع وستمائة‏.‏

وكان فاضلاً إماماً مبرزاً في علوم كثيرة مثل المنطق والهندسة وأصول الدين والفقه والهيئة والتاريخ وله مصنفات حسنة منها‏:‏ مفرج الكروب في أخبار بني أيـوب ومنهـا الأنبروزيـة فـي المنطـق صنفهـا للأنبـروز ملـك الفرنـج صاحـب صقلية لما توجه القاضـي جمـال الديـن المذكـور رسولاً إليه في أيام الملك الظاهر بيبرس الصالحي واختصر الأغاني اختصاراً حسناً وله غير ذلك من المصنفات‏.‏

ولقد ترددت إليه بحماة مراراً كثيرة وكنت أعرض عليه ما أحله من أشكال كتاب إقليدس وأستفيد منه وكذلك قرأت عليه شرحه لمنظومة ابن الحاجب في العروض فإن جمال الدين صنف لهذه المنظومة شرحاً حسناً مطولاً فقرأته عليـه وصحـت أسمـاء مـن لـه ترجمة في كتاب الأغاني فرحمه الله ورضي الله عنه‏.‏

وكـان توجـه إلـى الإمبراطـور رسـولاً مـن جهة الملك الظاهر بيبرس صاحب مصر والشام في سنة تسع وخمسين وستمائة ومعنى الإمبراطور بالإفرنجية ملك الأمراء ومملكته جزيرة صقلية ومن البر الطويل بلاد أنبولية والأنبردية قال جمال الدين‏:‏ ووالد الإمبراطور الذي رأيتـه كـان يسمـى فردريك وكان مصافياً للسلطان الملك الكامل ثم مات فردريك المذكور في سنة ثمان وأربعين وستمائة‏.‏

وملك صقلية وغيرها من البر الطويل بعده ولـده كـرا بـن فردريـك ثبـم مـات كـرا وملك بعده أخوه منفريد بن فردريك وكل من ملك منهم يسمى إمبراطور وكان الإمبراطور من بين ملوك الفرنج مصافياً للمسلمين ويحب العلوم‏.‏

قـال‏:‏ فلمـا وصلـت إلـى الإمبراطـور منفريـد المذكور أكرمني وأقمت عنده في مدينة من مدائن البر الطويل المتصل بالأندلس من مدائن أنبولية واجتمعت بـه مـراراً ووجدتـه متميـزاً ومحبـاً للعلـوم العقلية يحفظ عشر مقالات من كتاب إقليدس‏.‏

قال‏:‏ وبالقرب من البلد الذي كنت فيه مدينة تسمى لوجاره أهلها كلهـم مسلمـون مـن أهـل قال‏:‏ ووجدت أكبر أصحاب الإمبراطور منفريد المذكور مسلمين ويعلن في معسكره بالـأذان والصلاة وبين البلد الذي كنت فيه وبين رومية مسيرة خمسة أيام‏.‏

قال‏:‏ وبعـد توجهـي مـن عنـد الإمبراطـور اتفـق البابـا خليفـة الفرنـج وريدافرنـس علـى قصـد الإمبراطور وقتاله وكان البابا قد حرمه كل ذلك بسبب ميل الإمبراطور المذكور إلى المسلمين وكذلك كان أخوه كرا ووالده فردريك محرمين من جهة البابا برومية لميلهم إلى الإسلام‏.‏

قال‏:‏ ولقد حكى لي لما كنت عنده أن مرتبة الإمبراطور كانت قبل فردريك لوالده ولما مات والد فردريك المذكور كان فردريك شاباً أول ما ترعرع وأنه طمع في الإمبراطورية جماعة من ملوك الفرنـج وكـل منهـم رجـا أن يفوضهـا البابـا إليـه وكـان فردريـك شابـاً ماكـراً وجنسـه مـن الألمانية فاجتمع بكل واحد من الملوك الذين قد طمعوا في أخذ الإمبراطورية بانفراده وقال له‏:‏ إني لا أصلح لهذه المرتبة وليس لي فيها غرض فإذا اجتمعنا عند البابا فقل ينبغي أن يتقلد الحديث في هذا الأمر ابن الإمبراطور المتوفي ومن رضي بتقليده الإمبراطورية فأنا راض به فإن البابا إذا تم الاختيار إلي في ذلك اخترتك ولا أختـار غيـرك وقصـدي الانتمـاء إليك‏.‏

ولمـا قـال هـذه المقالـة لكـل واحـد مـن الملـوك المذكوريـن بانفـراد وصدقـه فـي ذلـك ووثـق بـه واعتقد صدقه فلمـا اجتمعـوا عنـد البابـا بمدينـة روميـة ومعهـم فردريـك المذكـور قـال البابـا للملـوك المذكوريـن‏:‏ ما ترون في أمر هذه المرتبة ومن هو الأحق بها ووضع تاج الملك بين أيديهم فكل واحد منهم قال‏:‏ قد حكمت فردريك في ذلك فإنه ولد الإمبراطور وأحق الجماعة بأن يسمع قوله في ذلك فقام فردريك وقال‏:‏ أنا ابن الإمبراطور وأنا أحق بتاجه ومرتبته والجماعة كلهم قد رضوا بي ووضع التاج على رأسه فأبلسوا كلهم وخرج مسرعاً والتاج على رأسه وكـان قـد حصـل جماعة من أصحابه الألمانية الشجعان راكبين مستعدين وركب واجتمعت عليه أصحابه الألمانية وسار بهم على حمية إلى بلاده‏.‏

قال القاضي جمال الدين‏:‏ واستمر الإمبراطور منفريد بن فردريك المذكور في مملكته وقصده البابـا وريدافرنـس بجموعهمـا واقتتلـوا معـه وهزمـوه وقبضـوا عليـه وتقـدم البابا يذبحه فذبح منفريد المذكور وملك بلاده بعده أخو ريدافرنس وذلك في سنة ثلاث وستين وستمائة في غالب ظني‏.‏